My Account Sign Out
My Account
Old wooden type on a wooden shelf

كريستوف فريدريش بلومهارت Christoph Friedrich Blumhardt

ChristophFriedrichBlumhardt2
  • قسيس كره التديُّن الزائف
  • مُبَشِّر رفض التبشير بالإكراه المعنوي
  • سياسي فقد الثقة بالسياسة
  • المحراث هو المصدر الرئيسي لكتابات بلومهارت المترجمة إلى العربية
كان كريستوف فريدريش بلومهارت (1842- 1919م) رجلا أصيلا. ولا يوجد أحد يماثله. فلم يكن رجلا سهلا يمكن مشابهته سواء كان ذلك من الناحية اللاهوتية أو السياسية أو أي ناحية أخرى. ولم يحس بالانتماء إلى مكان ما - لا في الكنائس ولا في الأوساط العلمانية. وكان مصدر إزعاج لكل من المسيحيين وغير المسيحيين على حدٍ سواء. وبدا لو أنه يتحدى الجميع. ومع ذلك فقد كانت لديه ثقة عجيبة حقا في التاريخ الذي يصنعه الله؛ ثقة ألهمت وأججت الرجاء لدى الكثيرين، ولا تزال تفعل ذلك حتى يومنا هذا.  اِقرأ سيرته الذاتية الكاملة

لم يكن لدى كريستوف بلومهارت نظريات وبالتأكيد لم يكن لديه «لاهوت». وبدون أن يؤسس مدرسة أو يرغب في جذب تلاميذ له، فقد أشار إلى اتجاه كان له أثر واضح على هؤلاء الذين جاءوا بعده. فقد كان وراء حركتين قَبَلاه على أنه من مؤسسيها دون أن يكون له اتصال مباشر بهما وهما الحركة الاجتماعية الدينية (في سويسرا وألمانيا)، وحركة اللاهوت الجدلي «الأزمة Crisis». وقد أثرت أفكاره على ليونهراد راجاز Leonhard Ragaz [مصلح لاهوتي سويسري، وكان من أحد مؤسسي الحركة الدينية الاجتماعية في سويسرا.]، وكارل بارت Karl Barth [ويُعتبر من أبرز علماء اللاهوت للقرن العشرين]، وأميل برنر Emil Brunner [لاهوتي بروتستانتي من (الكنيسة الإصلاحية) عمل جنبا إلى جنب مع كارل بارت]، وديتريش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer [فيلسوف ولاهوتي كاثوليكي ألماني دعاه البابا بيوس الثاني عشر بصورة غير رسمية بــ "طبيب الكنيسة للقرن العشرين"]، وآخرين لاحقا مثل هارفي كوكس Harvey Cox، [وهو من أحد اللاهوتيين البارزين في الولايات المتحدة الأمريكية وقد عمل كأستاذ جامعي]، و جاك ايلول Jacques Ellul، [فيلسوف فرنسي وأستاذ بالقانون وباحث اجتماعي ولاهوتي علماني]، ويورجن مولتمان Jürgen Moltmann [لاهوتي ألماني إصلاحي، وأستاذ فخري في جامعة توبنغن الألمانية. وهو من أعلام اللاهوت المعاصر، وقد حاز على جائزة Grawemeyer Award في الدين من جامعة لويزفيل، مدرسة الطب، ومن إكليريكيَّة لويزفيل اللاهوتية للكنيسة المشيخية] – وهؤلاء كلهم عمالقة لاهوتيون يمكن لكريستوف بلومهارت أن يشعر كغريب بينهم، لأنه لم يكن لديه أية فكرة عن احتمالية انبثاقهم وعملهم.

وهناك حركات اليوم مثل كنيسة الكرمة التي تعتبر كل من كريستوف بلومهارت وأبيه من أكثر الشهود المقربين لها، أي أنهما من بدآ الآيات والعجائب. ففي كريستوف بلومهارت لدينا إظهار لملكوت القوة مصحوبا بالتوبة. وهي القوة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من الكثير من الحركات الخمسينية والكاريزمية.

وعلى الرغم من قدرات كريستوف بلومهارت إلا أنه غير معروف لدى الكثير من القراء. وهذا، على سبيل المثال، هو الكتاب الوحيد الذي تم طباعته باللغة العربية «التفاني في خدمة الملكوت الآتي!». فبالرغم من أن الكثير من الجهود قد بُذلت في الماضي للإعلام عن كريستوف بلومهارت، لكن دون جدوى. فلم يعرفه إلا قليلون وذلك على عكس معاصريه مثل تشارلز فيني Charles Finney [قسيس أمريكي بروتستانتي، قاد حركة التجدد الروحي الثانية التي حصلت في الولايات المتحدة الأمريكية] وويليام بوث William Booth [واعظ بريطاني من الطائفة الميثودية ومؤسس الجماعة المسيحية المعروفة باسم جيش الخلاص].

وفي مقال كتبها فيرنارد ايلر Vernard Eller [كاتب أمريكي ومسيحي مسالم وقسيس في كنيسة الإخوة] للمجلة الأمريكية The Christian Century في عام 1969م، اعتقد فيها أن من بين أسباب عدم شهرة كريستوف بلومهارت هو أن رسالته لم تكن أدبية ولم تكن دراسية بالدرجة الكافية لكي يقتبس منها الآخرون. ففي كتابه Thy Kingdom Come: A Blumhardt Reader (ليأت ملكوتك: قارئ لبلومهارت) (نشرته دار ايردمانس Eerdmans، 1980م)، حاول فيرنارد ايلر أن يصحّح هذا، لكن للأسف لم يُلَاقِ الكتاب اهتماما كبيرا.

لكن ربما يكون هناك سبب أساسي. فقبل كل شيء كانت حياة بلومهارت مصدرا للغضب والإثارة. فقد عبّر عن أفكاره بعبارات مؤثرة. وقد أثارت عباراته الصدمة والسخط، لأنها سارت ضد تيار كل من الكنيسة والعالم. فقد كان مثالا لشيء مختلف عما نفهمه نحن بصفة عامة على أنه المسيحية. فكما كتب يوهانَّس هاردر Johannes Harder [كاتب ألماني-روسي، واجتماعي متديّن، وعالم في علم الاجتماع، وأستاذ جامعي] في إحدى المرات: «لو أراد شخص أن يجعل كريستوف بلومهارت يتوافق ويجد محلا في تاريخ اللاهوت، فربما يضعه في الملحق الخاص لكتاب ‹تاريخ الهرطقة› الذي كتبه اللاهوتي الألماني اللوثري جوتفريد آرنولد Gottfried Arnold (1966 – 1714م).»

لقد كان بلومهارت مقتنعا كل الاقتناع بأن أعظم خطر على تقدم الإنسان هو «الديانة المسيحية» - أي بمعنى ديانة يوم الأحد التي فصلت الوجود المادي عن الوجود الروحي، وأقامت طقوسا وشعائرا للاهتمامات الأنانية [أي جعل الذات في مركز للاهتمام] وتبعث على الرضا الذاتي [أي لا يحتاج المرء إلى تغيير حياته ويتوب باستمرار] وغيرها من صيغ التدين الدنيوية بدلا من أفعال البِرّ والاستقامة العملية الملموسة.

لم يهتم بلومهارت بالأمور المتعلقة بالديانة والكنيسة، وخدمات العبادة والتعاليم الكنسية ولا حتى بالسلام الداخلي أو الخلاص على الصعيد الشخصي فقط. ففي نظره، كان الإيمان أمر يتعلق بمجيء ملكوت الله، وبنصرة الله على الظلام والموت، هنا والآن. وكانت رؤيته لبِرّ الله على الأرض بلا شروط، بل رؤية مؤثرة للغاية، ومفادها أن: محبة الله تصالح العالم، وتحرر من الألم، وتشفي الاحتياج الاقتصادي والاجتماعي، أي باختصار تُجَدد الأرض.

بدت رسالة بلومهارت للكثيرين بأنها ذات طابع عولمة بدرجة خطيرة وخالية من التوقير. وفي الحقيقة، فقد عادته الكنيسة الرسمية في أيامه بإلقاء الشكوك عليه، والافتراء والطعن. فقد لمست رسالته عصبا ما زال طريا اليوم.

لم يكن هدف بلومهارت التهجم مطلقا. إلا أن ملكوت الله استحوذ تفكيره بالكامل - الذي يعني سيادة كل من سلام وعدل المسيح المليئين إبداعا على وجه الأرض كلها. فهذا الملكوت ليس دستورا رسميا ولا شيئا مثاليا، لكنه حركة تنتمي إلى المستقبل وتضرم بنارها بالحاضر. إنه تاريخ البشرية الحقّ، وسيكون منتصرا دائما في النهاية. فهو يتواجه ويضع تحت المحك كل شيء تم التفكير فيه أو التخطيط له أو بناءه، وهو يتعارض مع كل المؤسسات وكل نصب تذكاري وكل الأيديولوجيات. وهو يطلب دائماً الشيء المختلف، والجديد، ويجمع بين دفتيه الحياة بأكملها.

مثل تلك النظرة الواسعة لعمل الله الفدائي تضرب بشدة ضد قيود المسيحية التقليدية. وهذا يمكن أن يكون السبب الحقيقي وراء عدم انتشار فكرة بلومهارت على الرغم من أنها قد تبدو أنها فعلا فكرة قوية بالنسبة للقلة المهمة من الناس.

سنرجع لهذا الموضوع الخاص بالملكوت، لكن قبلما نفعل هذا يجب أن نفهم أولا كم كان ملكوت الله ملموسا وحيّا لبلومهارت. فلم يكن بلومهارت شخصا خياليا. فقد تنامت فكرته جراء تجربته وليس جراء اللاهوت. وكان ملكوت الله شيئا حيّا له، وليس فكرة مجردة. فقد تهلَّل كيانه وامتلأ فرحا بما عاشه ورآه شخصيا.

ويجب على المرء أن يرجع إلى والد بلومهارت، يوهان كريستوف بلومهارت (1805- 1880م)، لكي يقدر تفهُّم هذا الأمر. فقد كان والده راعي كنيسة موتلينجن Möttlingen ، وهي بلدة صغيرة على حافة الغابة السوداء Black Forest وقد تبع في عمله الأسلوب نفسه الذي يستخدمه أي راعي كنيسة ريفية إلى أن تقابل يوما مع امرأة تحمل اسم جوتليبين ديتوس Gottliebin Dittus. وجوتليبين هذه عانت من مرض ربما يتشابه مع سطوة الأرواح الشريرة التي يصفها لنا العهد الجديد (الإنجيل). وقضى الأب بلومهارت الكثير من الشهور يراقب بكل أسى ألم تلك المرأة المتزايد وعذابها. فشعر أن هناك شيئا مظلما شريرا يعمل بها. وفي تلك السنة ولد ابنه كريستوف في عام 1824م. ودخل الأب أخيرا في حرب مع قوى الظلمة، فصاح: «لقد رأينا الكثير مما يمكن أن يفعله الشيطان، دعونا الآن نرى قوة الرب يسوع المسيح». فشن حربا ضد معاقل الشيطان استمرت لمدة عامين. وأخيرا انكسرت قوى الظلمة، وانتصر. وأخرج الأرواح الشريرة. وشُفيت جوتليبين تماما من كل البؤس الروحي والجسدي. وانتهت الحرب بالنصرة بكلمات من شفتيها: «يسوع منتصر، يسوع منتصر.»

ونتيجة لتلك النصرة انتشرت حركة عارمة من التوبة. واجتاحت أبرشية بلومهارت كلها وامتدت إلى المدن المجاورة والقرى. فتدفق الناس من كل حدب وصوب على بلومهارت الأب. وغيّر هذا الاقتحام الذي قامت به قدرة الملكوت قرية موتلينجن بأكملها. إذ حصلت هناك العديد من حالات الشفاء واعترافات بالخطايا واهتداءات. والتأمت الزيجات، وتصالح الأعداء. وتجسّد شيء جديد وغريب من عالم الله، وفرض سيطرته. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا ما كان كلام بلومهارت الأب غير «يسوع منتصر!» ففي هذا العالم الغريب والمؤثر ترعرع الابن كريستوف.

ولأسباب عديدة زادت المعارضة تدريجيا ضد بلومهارت الأب لاسيما من جانب القساوسة والسلطات الكنسية الرسمية. فقد تذمر رجال الدين المحليين نتيجة لهروب أهالي أبرشياتهم إلى كنيسة بلومهارت. وسرعان ما امتلأ بيت القسيس بلومهارت ولم يعد يقدر استيعاب وضيافة تلك الأعداد من الناس الذين بدأوا يتدفقون إليه. فبدأ يبحث عن مكان آخر أوسع يحصل فيه كذلك على المزيد من الحرية. وعندما كان كريستوف في العاشرة، انتقلت عائلته إلى منطقة تدعى «باد بول»، وهي عبارة عن مجموعة من الأبنية الكبيرة التي أقيمت على أساس أنها منتجع سياحي حول مياه شلال. وقد تم تحويره إلى ما أشبه بمركز روحي، أي بمعنى مكان يأتي إليه الناس لكي يحصلوا على فترات من الراحة والتأمل والدراسة والمشورة الرعوية، ومكان حيث يمكن لبلومهارت الأب أن يكون حرا لكي يعمل وفقا لقيادة الله له.

قضى بلومهارت بقية حياته في باد بول وقضى ابنه معظم فترة حياته هناك. وجاء آلاف من الناس لأبيه لكي يحصلوا على الشفاء والقوة التي في نصرة المسيح، التي كانت الشيء نفسه الذي لمسه كريستوف الذي جعله أساسا له. ولا عجب في أن اختبارات أبيه الرائعة قد حُفِرت بعمق في نفسه، لتدفعه للأمام في الطريق ذاته.

وفي باد بول وجد كريستوف الصغير نفسه في وسط تدفق مجاميع من الناس التي طلبت المساعدة، مجاميع من طبقات وجنسيات ودول مختلفة، ووجد نفسه أيضا في وسط جهاد أبيه المتواصل والمحتدم في صراعه من أجل ملكوت الله. ولاحقا، شعر بأنه مدعو للخدمة هو أيضا. وبعد مضي عدة سنوات سُمح له بأن يساعد أبيه. وعندما دعاه أبيه إلى باد بول كمساعد كان كريستوف يريد أن يجعل من نفسه شخصا نافعا في المنزل في معظم الأساليب الوضيعة ربما كمساعد طباخ أو ما إلى ذلك. ولسبب ما، لم يكن لديه اليقين نفسه الذي امتلكه أبيه. إذ كان عليه أن يخوض هو شخصيا الصراع الذي خاضه أبيه. لكن بموت جوتليبين ديتوس في عام 1872م أصبحت هذه نقطة تحول بالنسبة له وبالنسبة لكل العائلات في باد بول. وقد قادت هذه التجربة كل فرد هناك إلى اختبار جديد من التوبة العميقة ولتبعث في نفس كريستوف ثقة متجددة لدعوة الله له. وقد فوضت كلمات أبيه الأخيرة من على فراش الموت في عام 1880م، فوضت كريستوف لحمل الراية من بعده، قائلا: «أعطيك بركة للنصرة.»

تولى بلومهارت مهمة عمل أبيه ببالغ الانكسار والتواضع. وتسلح بالروحية نفسها التي كانت عند أبيه، فشَهِد هو أيضا قوات عجائبية عظيمة من الروح القدس وقدرته. لكن بلومهارت لم يتوقف عند هذه الوقائع، فبالنسبة له، كان لابد وأن يثبت أن الإنجيل مليء بالحياة، مما دفعه هذا لكي يسلك طرقا أخرى غير تلك التي سلكها أبيه. ولم يمضِ وقت طويل حتى ترك الكنيسة تماما. وكان خروجه بناء على رغبته إلى حد ما وكذلك بناء على رغبة السلطات في الكنيسة. وأخيرا، وبكثير من الصراعات تمكن من قطع كل أواصره مع كل الأشكال الخارجية للحياة الكنسية، والثوب الكهنوتي ومن جميعها. فاللاهوت والطوائف الدينية وحتى كل أنواع نصوص قوانين الإيمان كان لها المعنى نفسه بالنسبة له: فكلها قائمة على رموز وترتيبات وكبرياء بشرية - ألا وهي الجسد.

شعر بلومهارت كذلك بخيبة أمل بسبب الاهتمام المستمر الذي يوليه الناس بموضوع الشفاء. وكما حدث في وقت يسوع فقد أصبحت «المعجزات» هي الشيء الرئيسي الذي يجذب الناس إلى باد بول، وقد حارب بلومهارت هذا الأمر، وكان مصمما على أن يبعد باد بول من أن تصبح معهدا للإيمان بالشفاء. وكتب مرة خطابا لشخص يطلب منه المعونة قائلا: «هناك كذبة تحوّل اتجاه كل شيء إلى استغلال نعمة الله ورحمته بطريقة يصبح عندئذ المُخَلِّص مجرد خادم لنا.» فبالنسبة لبلومهارت فأن التغلب على المرض هو أمر ثانوي في ملكوت الله. فقد قال مرة: «إن تطهُّركَ الروحي أهم من شفاءك الجسدي.»

ولم يبدأ بلومهارت في إعادة النظر بجدية بالاتجاه الكامل لعمله لغاية أن رأى يوما الضجة التي سببها بعد رحلاته الإرسالية إلى ألمانيا وسويسرا. فبعد عودته من برلين في مارس 1888م لم يترك بلومهارت نشاط الوعظ العام فحسب بل ترك أيضا شفاء المرضى. فقد شعر بأن أولئك الذين كانوا يتدفقون إليه قد أساءوا فهمه، فقد قال: «أنني آسف جدا لأن الناس يقولون بأنني واعظ مشهور. أنا لا أريد أن أكون خطيبا أمامكم. فأنا لست بخطيب على الإطلاق، ولا أريد أن أكون كذلك. كل ما أريده هو أن أكون شخصا يختبر الله. ولا أريد أن يتحدث الجميع عن تلك الأشياء، وأريد أن أقف أمامكم مجرد كشاهد!»

لقد آمن بأن امتلاك قلب نابض نحو قضية الله هي أهم علامة أكيدة لملكوت الله، فلا تهم أعداد الحشود أو حصول الشفاء أو عدم حصوله. وبالنسبة لبلومهارت، فأن محبة الله لا تحمل أثقال وحاجات النفوس وحسب لكنها أيضا تمتد لهؤلاء الذين يعيشون في غياهب الفقر. وأخيرا، صار قلب بلومهارت مفتوحا لخطايا وشقاء العالم. ونشأت في داخله رغبة عارمة لعدالة الله، وقاده هذا إلى إدراك أوسع للبؤس وللفقر ولعدم المساواة من حوله في ألمانيا وفي العالم. ولهذا شعر بصوت الله في الحركات الجديدة الثائرة والمحتجة ضد الظلم والرأسمالية والحرب. ورأى ظمأ الناس للأمل في الحركات الاجتماعية الكبيرة في أيامه. فقد قال: «إن صراع الملايين في زماننا هذا ليس من قبيل المصادفة. فهو يتعلق بصراع الرسل نفسه - فهذه هي علامات ربنا يسوع المسيح.»

في كتب الأنبياء، نجد بأنه حتى الشعوب الوثنية مثل الآشوريين والبابليين والفارسيين والملوك الوثنيين مثل نبوخذ نصر وكورش كانوا في خدمة الرب. لذا بدأ بلومهارت يتساءل لماذا لا يمكن للحركة الاجتماعية التي تهدف إلى مساعدة البشرية أن تخدم أيضا كأداة في يد الله. وعلى الرغم من قصور الحركات الاجتماعية إلا أن بلومهارت رأى أن المسيح كان بالتأكيد مختبئا فيها.

وحسب خُطى والده، اهتم بلومهارت أكثر وأكثر بواقع المجتمع المعاصر. وأخيرا ترك «المجالس المقدسة» في باد بول وذهب إلى الشوارع لكي يدعم حركة العمال، التي أرادت أن يكون صوتها مسموعا. فستتوقف باد بول عن أن تكون «مكانا للمواعظ» لكي تصبح «مكانا للحياة الحقيقية». ووقف بلومهارت وحده فعلا بين الناس في الكنائس ولديه هذا الشعور باحتياجات هذه الجموع. وعندما انضم إلى حزب الديمقراطيين الاجتماعيين (وناب عنهم في برلمان فورتمبيرغ Württemberg من عام 1900 - 1906م) بدا الأمر كما لو كان في المنفى. إذ طلبوا منه أن يترك مكانته كراعي كنسي في ولاية فورتمبيرغ. فقد اعتبرته الكنائس التقليدية مثل شخص مطرود لأنه اشترك في السياسة. وقَبَلَ بلومهارت الأمر واعتبره تحررا، وقال: «إن الدولة والكنيسة لا تُعتبران تربة خصبة لنيران الله.»

لكن نظرة بلومهارت الخارجية لم تعلق الآمال على الحركة الاجتماعية وحدها في تلك السنوات. فبالنسبة له كان كل ما يتحرك وينبض في الجموع وكذلك في الطبيعة يأتي تحت نور الملكوت. ورأى بلومهارت الكثير من العجائب في العلوم والاقتصاد التي يمكن أن نقبلها على أنها رسائل لعصر به الكثير من التغيرات. وسعى إلى قراءة علامات الأزمنة وكان مقتنعا أن المسيح أراد أن يقتحم أوضاع وأحوال العالم لكي يحرِّر الذين انغمسوا في قواه الفاسدة.

كانت الأصالة في الحياة الروحية بالنسبة لبلومهارت تعني الالتزام الاجتماعي. فلو أن ملكوت الله تغلغل في كل الخليقة عندئذ لابد وأن نشهد: «ملكوت الله يأخذ اتجاهات واسعة تلك الأيام. ويجب أن نخرج من حجراتنا الصغيرة ومن عزلتنا. فإن الملكوت يأتي إلى الشوارع حيث يحيا أفقر الفقراء، والمطرودين والبائسين. فهناك يأتي ملكوت الله. فهو يمتد نحو السماء والجحيم وإلى كل الناس.»

هذا الملكوت هو كل شيء فيما عدا الدين. وبالتأكيد فإن الملكوت هو ليس ما يُعرف بالمسيحية. لقد آمن بلومهارت أن الأنبياء ويسوع أرادوا عالما جديدا؛ سيادة الله على كل الواقع. ومن وجهة نظره فإن الخلاص على الصعيد الشخصي والتركيز على السماء لم يكونا ما يرمي إليهما التاريخ. فالله لم يكن مهتما بأن نصل إلى السماء، لكنه كان مهتما أكثر بأن تأتي السماء على الأرض. فقد قال مرة: «يتوق كثيرون إلى السماء، فيمتدون نحو السماء، وأود أن أخبرهم: دعوا عقولكم تصل إلى الأعالي التي نريد أن ندركها على الأرض. فهنا على الأرض ظهر يسوع، ولم يظهر عاليا في العالم غير المرئي، وهنا على الأرض يريد أن يظهر مرة ومرات. ولعلنا سوف نجده هنا على الأرض.»

أن الفكرة القائلة بأن الله هو في السماوات فقط وأن تطبيق الإنجيل ينحصر هدفه لأجل الحياة الروحية للفرد فقط، كانت كارثة وفقا لبلومهارت. فيجب ألا تأتينا البركات أولا بل يأتي ملكوت الله. ولا تكون منفعتنا أولا (هنا أو فيما بعد) لكن إكرام الله أولا. أو كما لَخّص مرة «ليونهارد راجاز» أفكار بلومهارت قائلا: «من الدين إلى ملكوت الله، ومن الكنيسة إلى العالم المُفتدى، ومني إلى الله.» وهذه الرؤية الشاملة قادت بلومهارت ليعود إلى باد بول أخيرا.

لم يكن بلومهارت سياسي بما تعنيه الكلمة، لكن الظروف دفعته إلى الانضمام رسميا، للحزب الديمقراطي الاجتماعي، إلا أنه لم يرد في الأصل أن يكون عضوا منتظما في الحزب. وعلى الرغم من أن الحزب قبله بأحضان مفتوحة إلا أنه على المدى الطويل لم يجد أن الحزب يدعمه ليكون شاهدا للإنجيل، فقال: «أن الحركة الاجتماعية كما نراها اليوم ما زالت تنتمي للعالم الذي سيزول. وهي لا تحتوي على العِشرة الأخوية للبشر مثلما تلك التي ستأتي يوم ما من خلال روح الله.» وبالتالي وبعد مضي الفترة الأولى رجع مرة أخرى إلى باد بول بسبب مرضه الخطير الطويل، وفي عام 1917م عانى بلومهارت من جلطة؛ ومات بسلام بعدها بعامين في 2 أغسطس 1919م.

لم يتراخَ بلومهارت في حربه ضد البنية الكنسية التقليدية - وضد المسيحية العقائدية المؤسساتية الدينية - لأنه كان مشغولا تماما بحلول مُلك الله. فبالنسبة له، تتعارض بشارة الملكوت هذه مع كافة أشكال التدين السطحي. وتطلب تغيير جذري وثورة في الحياة. ولم يكن يسوع معلم لمذهب أو مثال إلهي على الفضيلة السماوية، لكنه علم وعاش عالم الله الجديد. وافتتح عصرا جديدا، ألا وهو مجتمع جديد مؤسس على عدل الله وشفاءه. ومجيء يسوع الأخير ما هو إلا إتمام لما بدأه. وموته حسم الحرب ضد قوى العالم القديم، وقيامته كانت الفجر المنتصر للعالم الجديد الآتي - وبداية لعصر جديد في التاريخ، وصباح جديد في الخليقة- وعودته هي اكتمال الخليقة.

وعلى الرغم من سوء الفهم وعلى الرغم من المعارضة إلا أن بلومهارت كان رجلا ذا رجاء ثابت لا يتزعزع. فالإنجيل بالنسبة له كان بمثابة أنباء سارّة عن أيام المسيح القادمة. «المُخَلِّصُ آتٍ!»

ففي النهاية كان كل ما يهمه هو ملكوت الله الآتي؛ وهو واقع لا يمكن أن يختلط مع أي فلسفة إنسانية. فهذا الملكوت ليس من صنع البشر. وفي الواقع هو للعالم لكنه ليس من العالم. ولا تقدر الأهداف السياسية ولا التدين المسيحي على جلب وإحداث ملكوت الله. فتراه يقول: «فليس بإيماننا، ولا بصلواتنا ولا بتقوانا لكن بعمل الله ستأتي وتظهر مدينة الله المستقبلية.»

وهذا لا يعني أن هؤلاء الذين ينتظرون مستقبل المسيح يجب أن ينتظروا دون أن يفعلوا شيئا. حاشا. فقِوى المستقبل هي بالفعل حاضرة هنا. ويجب على شعب الله أن يعيش في ظلّ تلك القوى، ويتجاوب معها ويسمح لها أن تنمو. وهكذا وحسب بلومهارت فإن أفضل خدمة نؤديها هي اِنتظار عمل الله. فيجب أن ننتظر ونتعجل لمجيء المسيح في آن واحد. وعلى الرغم من كل الجهود الضرورية التي يجب أن نبذلها من جانبنا فيجب علينا أن نثق بأنه، في خضم ظمأنا، فإن ملكوت الله سيتغلب على كل عائق.

وفي ظل هذا الترقب آمن بلومهارت أن أية جماعة للمسيح يجب أن تتجمّع تدريجيا، تتجمّع لتنتظر، وتتجمّع ليعيش أفرادها معا حياة أخوية مسيحية مشتركة في ظِلّ قوى المستقبل. قال بلومهارت: يريد الله دائما أن يكون له مكانا ومجتمعا أخويا ينتمي بصدق إليه، لكي يستطيع كيان الله أن يسكن هناك. فالله بحاجة إلى مثل هذا المكان حيث يمكنه أن يعمل منه لبقية العالم. فلابد أن يكون هناك مكان على الأرض - على مثال جبل صهيون - حيث يشرق منه ملكوت الله. ففي المسيح يجب أن تستسلم الخليقة القديمة للخليقة الجديدة كما يستسلم الليل للفجر.

ثم إن هذا «الاِنتظار» ينطوي على نوع من الحركة المزدوجة. كما يوضح «فيرنارد ايلر» قائلا: «ينبغي أن نعطي أنفسنا بالكامل لقضية الملكوت، ونفعل كل ما في استطاعتنا لكي نساعد العالم أن يسعى نحو هذا الهدف. لكن في الوقت نفسه، لابد أن نبقى هادئين وصبورين، حتى لو أن جهودنا لم تحقق أي نجاح، فإن هذا النوع من الاِنتظار في حد ذاته هو عمل خلّاق وقوي في التعجيل السريع لقدوم الملكوت.»

عندما يسمع المرء رسالة بلومهارت يحسّ بأن الحقّ التي تحمله رسالته ليس محصورا في مكان أو زمان معينين. ربما يرجع هذا إلى أن يسوع بالنسبة لبلومهارت يقوم من بين الأموات الآن؛ ويسوع منتصر الآن؛ وملكوت الله يقتحم حياة الناس الآن. إذ أن النسيج الذي يرمي إليه ملكوت الله يتخطى الزمن، فتراه يُجمِّع أشخاصا لا نتوقعهم ليصبحوا شهودا له، مِمَنْ تباركوا ليروا ما هو حقيقي رغم أوهام وسراب زمانهم.

من بين هؤلاء الذين لديهم تلك الرؤية نفسها في زماننا هو البطريرك «أوسكار روميرو Oscar Romero» الذي اُغتيل برصاصة عام 1980م لتتوِّج حياة ملؤها خدمة فقراء بلده، السلفادور. وقد اُنعِمَ عليه ليرى ما يفعله الله الآن مثله مثل بلومهارت. وما يعبر عنه روميرو في صلاته الشعرية يعبر عنه بلومهارت في نثر رائع. فالملكوت الذي دعا روميرو شعبه إليه وتحداهم لاحتضانه والامتثال به هي السيادة نفسها التي استحوذت على بلومهارت بقوة جبارة. وعندما يضع المرء صلاة شهيد معاصر جنب لجنب مع مشاعر شخص قد أُسِيءَ فهمها، تتجلى هنا رؤية مسيحية موحدة التي لا تخضع لأي زمان أو مكان محددين، عندئذ ينتابنا ارتياح عارم. فملكوت الله قريب. ويجب علينا أن نبذل كل ما في وسعنا في سبيله بالإضافة إلى أننا يجب علينا أيضا أن ننتظره، أي القيام بعملين في عمل واحد، وهو الترقب الملموس.

ولهذا السبب فقد اخترنا صلاة أوسكار روميرو لأنها تحمل الموضوع الرئيسي ذاته في هذه المجموعة من المقالات والمواعظ. فمن ناحية، إن ما لدينا هنا هو مجرد عينة. فلا يمكن التعبير عن وسع فكر بلومهارت ولا عن عمق صلاة روميرو في كتاب صغير كهذا. لكننا نأمل أن ننقل روحية واشتياق كل منهما. فقد استحوذت بلومهارت حقيقة مجيء ملكوت الله على الأرض هنا والآن. وأدرك روميرو مثله مثل بلومهارت أن الملكوت كان فيما وراء جهودنا وسيبقى أكبر من نطاق قدراتنا دائما، لكن، ولكل منهما، فقد أشعل ملكوت الله في داخلهما ترقبا متوهجا للإيمان الحيّ؛ إيمان يعمل وينتظر في آن واحد، ويساعد الله ويأمل فيه. ولعل رؤية بلومهارت وصلاة روميرو توقدان الإلهام في نفس القارئ عن أعمال الرجاء هذه. وفي فجر الألفية الجديدة فنحن بحاجة أكيدة للمزيد منهم.

تشارلز مور

Charles Moore

مايو/أيار 1998م

المقالات الأخيرة

اِعرِض الجميع

إشادة بالكتاب